إدارة التنمية في الاقتصاد،
ودور القطاع العام في ذلك من خلال إعادة
هيكلته وتأهيله وتطوير إدارته

الأستاذ انطون جبران*

لا شك أننا في مرحلة نتطلع فيها إلى ترميم بعضٍ من الواقع ونتطلع إلى بناء مستقبل واعد على أسس علمية تعتمد التقنية المتقدمة، مستندة إلى أساليب الحداثة والأتمتة، وهذا ما يحدو بالجميع للقيام بعمليات جرد وفحص للدفاتر القديمة ومراجعة بنودها، للتركيز على الإيجابيات وهي كثيرة، والكشف عن الهنّات لمعالجة أسبابها، ومن ثم التفكير والدراسة بما كان وبما يمكن ان يكون.

وما لا بد من لفت العناية إليه هو ان الإنسان، وفي حالة وجود مشكلات أو عقبات في طريق نموّه يجد نفسه مدعواً للفحص والمراجعة، كي يتفاءل بما حققه من إيجابيات، وكي يكون متنبهاً وحذراً من السليبات قبل ان تتراكم هذه الأخيرة وتعرقل مسار التقدم والتطور.

وما تجدر ملاحظته هو انه لدى وجود مشكلة، لا بد من الوقوف أمامها للتعرف على واقعها وأسبابها من غير أوهام، لإيجاد الأسلوب السليم الذي يتيح تفادي الوقوع بمثلها ثانية، وعندما تكون المشكلة متعلقة بجهة عامة، أو تكون مشكلة عامة، يتحتم، لدى البحث عن العلاج، التحلي باليقظة مع الإرادة إلى جانب الاستفادة من تجارب مماثلة، هذا إلى جانب التحلي بالنضج واليقظة في العلاج والموثوقية في الأسلوب لتفادي الوقوع بذات الخطأ أو تمادي هذا الخطأ، واليقظة هنا تستدعي التعلم من التجارب كما تستدعي حكمة العقل، ولئن كانت سرعة الحركة أحياناً تفرض  تجاوز ذلك، إلا أن الحقيقة تؤكد ان التصرف بغير التروي والحكمة إنما هو رد فعل إرادي عصي، وهو اقرب إلى التشنج منه إلى القصد الهادف والفعل الواعي، كما أن الخوف والتريث وما قد ينجم عنهما يجب ان يكونا آخر المطلوب عند البحث عن فرص المعالجة.

وقد تكون مساءلة النفس بقصد المراجعة والتدقيق هي الخطوة الأولى والضرورية للوصول إلى نتائج سليمة، مع الأخذ بالاعتبار دوماً أن الابتعاد، ولو ببطء ، عن الحافة هو النقلة الحكيمة للوقوف على القدمين بحثاً عن مخرج سليم للوصول إلى المجرى الصائب والهادف.

ومن المسلم به ان المجتمعات المتماسكة والمتلاحمة، حين تسائل نفسها وتراجع بعض أخطائها، لا تفعل ذلك للتأوه والندم، بل هي تفعل ذلك لتصويب ما انحرف في المسار السليم، خاصة وان ما مضى غير قابل للاستعادة حتى يمكن تعديل مساره بأثر رجعي، ولأن حركة التاريخ إنما هي احتكاك مصالح ومطالب و ضغوط ومشاق ومصاعب مع تدافع رغبات تطلبُ الرقيَّ والرفعة، وهي توفر لنفسها حق الاختيار إذا أحسنت التقدير، وتلك هي مهمة السياسة بحسبانها علمُ وفنُ استخدام إرادة المجتمعات في إدارة إمكانيات مواقعها ومواردها وطاقاتها الإنسانية بغية تحقيق طموحاتها حاضراً ومستقبلاً.

وهنا يجيء ما يستحق الوقوف إزاءه، و هو ان السياسات الجيدة والمخلصة ليست دوماً ضماناً أكيداً للنجاح في كل جانب أو التقدم بكل اتجاه، ومن هنا علينا أن نستقرئ ما نحن فيه وما وصلنا إليه وان نضع إجاباتٍ تقريريةً غير إنشائية، محددة وغير مطلقة، لان ذلك هو الأسلوب في تقدير حسابات الربح والخسارة، والمضاهاة بين سياسات جيدة قد لا تضمن كامل النجاح المرجو، وبين سياسات سيئة تضمن الفشل المحقق.

ومن يقرأ سياسة قطرنا منذ السبعينات وحتى اليوم، ولا أتعرض لما قبل، رغم نجاحات كبيرة تحققت خلال حقبات كثيرة، يجد ان القطر رسّخ مبادئ ومنطلقات، واتبع خططاً مدروسة وهادفة، أورثت إيجابيات كبيرة في معظم الأحيان، وأخفقت في أحيان أخرى، لا لخطئها بل لسوء تنفيذها أو لسوء ممارسات من البعض أثناء التنفيذ، وهذا ما يحدونا للقول بفخر، ان قطرنا عدا ما يزهو به ويفاخر من سمعة سياسية رائعة وصائبة ومواقف وطنية وقومية مشهوداً لها في العالم اجمع، فهو قد حقق الكثير الكثير على طريق النمو الاقتصادي والاجتماعي، لكن ذلك لم يخلو من هنّات أورثت ما يحدو الجميع كلاً في موقعه للدراسة والاقتراح بغية التصويب والعودة إلى الطريق التي رسمت له، وللسير على الطريق التي تفتح أمامه اليوم السبيل لمحاكاة التطور الجاري في العالم من غير انغلاق، ولتحقيق الغايات التي يصبو إليها من غير تفريط.

وإذا كنا نخص بالحديث اليوم موضوع التنمية الاقتصادية ودور القطاع العام وكيفية تطويره، من غير إغفال القطاعات الأخرى، فيجدر بنا ان نذكرّ ان قطرنا بقيادته الرائدة والحكيمة فعّل دور القطاعات المختلفة من عام وخاص ومشترك وتعاوني، وبنى وفق خطط مدروسة راعت الواقع واستهدفت المستقبل، قاعدة اقتصادية عريضة ومتنوعة لا زالت هي القاعدة الأساس التي ننطلق منها للتحديث والتطوير والنماء، ويكفي ان أشير هنا إلى مؤشرات فقط، انه عدا الصرح الكبير والعظيم للقطاع العام الذي بني خلال السبعينيات واستمر يتنامى ولو ببطء حتى يومنا هذا في ضوء الظروف التي مرّت خلال بعض المراحل، فإن القطاع الخاص تنامى بشكل متسارع ولو بفاعلية مالية محدودة، وهنا أشير إلى ان عدد المنشآت الصناعية في القطاع الخاص كان 1537 منشأة عام 1970 وصلت إلى حدود عشرين ألف منشأة عام 1980 وبلغت بحدود ستة وثلاثين ألف منشأة في مطلع عام 1990 وتنامت بعد ذلك إلى ما هي عليه الآن، مع ملاحظة ان بعض المنعكسات السلبية والإجراءات البيروقراطية، عرقلت مسار النمو، ومن يراجع تقرير رئاسة مجلس الوزراء الذي أعد عام 1998 حول المشاريع التي تم ترخيصها سنداً لاحكام القانون رقم /10/ لعام 1991 وما نفذ من هذه المشاريع، ونوعية ما نفذ يمكن ان يدرك سلبيات البيروقراطية وخلفيات تأثيرات طفيلية طفت ولا زالت تطفو حتى يومنا هذا.

إننا جميعاً نعلم ان القضية الأولى في سوريا هي قضية التنمية، وعندما يجري الحديث عن التنمية فإنما يهدف التنمية الشاملة في كل مجالات الحياة الاقتصادية منها والاجتماعية والثقافية، على ان التنمية في أي مجال من هذه المجالات لا يمكن أن تقوم وان تحقق أهدافها إلا إذا ارتكزت على إدارة علمية سليمة، سواء أكان ذلك في إطار المؤسسات العامة أو في إطار القطاعين الاقتصاديين العام والخاص، سواء كان النشاط صناعياً أو تجارياً أو مالياً أو كان نشاطاً خدمياً، ومن هنا كانت المقولة السائدة التي تذهب إلى ان الإدارة هي عصب التنمية.

وما يجدر التأكيد عليه هنا، هو انه مهما كانت الخطط صائبة ومهما كانت الغايات واضحة، ومهما كانت الطموحات هادفة، فإن الإدارة المتخلفة، أو الإدارة القائمة على الفردية، من غير الاعتماد على المؤسسات، قمينة بوأد الخطط وزيادة التخلف وإشاعة الفوضى وتزيين الخراب، وهذا ما يؤكد على أهمية التغيير في الأشخاص والأدوات وأنماط العمل لان الحاجة إلى التغيير اكبر من أية حاجة أخرى، مع ملاحظة ان التغيير في الأشخاص لا بد وان يتركز على الطفيليين والأتباع والمنحرفين أو على البيروقراطيين المتعفنين، مع الحفاظ على الكوادر المؤهلة والقادرة، وخاصة منها المهملة مرحلياً، لتكون هذه الكوادر وسيلة وقدوة لتأهيل الغير وتصويب خطى العمل.

ولئن كان التوجه العام يهدف ويؤكد على وجوب التطوير والتحديث واعادة هيكلة الإدارة والانتقال من مرحلة العمل الفردي إلى العمل الجماعي، لكن منعكسات تنفيذ هذا الهدف لا تزال تراوح في مكانها.

وبحسبان ان هذا كله أمسى معروفاً ولا مجال للشك فيه، فإن ما نعود ونؤكد عليه هو ان إدارة التنمية أصبحت علماً له أصوله وقواعده النظرية، وله ادبياته المعروفة للدارسين والباحثين في علوم الإدارة، وللكثير من القادة الإداريين في المواقع المختلفة، غير ان الذي يحتاج إلى التفكير والبحث والاجتهاد، هو الجوانب التطبيقية لهذه الأصول والقواعد النظرية في ضوء الظروف الموضوعية للمجتمع وما تحكمه من تشريعات وأنظمة. فالإدارة لا تعمل في فراغ بل تعمل في إطار واقع اجتماعي معيّن، تتأثر به اشد التأثير، ويمكن ان تؤثر فيه أيضاً، ولعل أهم جوانب هذا الواقع الاجتماعي بالنسبة للإدارة، هو مجموع العادات والاتجاهات الاجتماعية الطارئة والسائدة، والنظم التشريعية والتنظيمية الأساسية، وهذه وتلك تمثل في كثير من الأحيان عقبات ليس من السهل تجاوزها. وقد تكون من بين الاتجاهات الاجتماعية السلبية التي طرأت وتكاد تترسخ في المجتمع، والتي تؤثر في الإدارة وتوجه أداءها، مجموعة طفيلية استفادت من نفوذ البعض، وسخرّت الإدارة لمصلحتها، وجعلت هذه المصالح هدفاً محل الأهداف الاجتماعية والاقتصادية العامة والشاملة، يضاف إلى ذلك عاداتٌ سلبية أخرى تضعف من تأثير الإدارة الجدية والعلمية سواء في القطاع الحكومي أو القطاع العام أو قطاع الأعمال، وهذه العادات هي الاتكالية وعدم الانضباط، والافتقار إلى الدقة واحترام القانون، والفردية وعدم القدرة على العمل الجماعي، والمجاملة على حساب مصلحة العمل، واقل ما تؤدي إليه هذه الظواهر، ضعف الإنتاجية وانخفاض مستوى المنتج، وتسليم قيادة العمل الإداري في مستوياته العليا والوسطى إلى غير القادرين أو المؤهلين لتحمل المسؤولية، وبالتالي إفساح المجال أمام الطفيليين والسماسرة للاستفادة غير المشروعة على حساب الجهات العامة والقطاع العام، ومن ثم إغراء ورشوة القائمين على هذه الجهات وتجميع ثروات غير مشروعة على حساب المجتمع، والمساهمة في تشويه نوعية إنتاج القطاع العام ورفع تكلفته، سواء من حيث التدخل في توريد وسائل الإنتاج أو متمماتها، أو في المواد الأولية وتكلفتها ونوعيتها.

يضاف إلى ذلك ان الواقع التنظيمي والتشريعي قد يفرض على الإدارة، وعلى الأخص في الحكومة والقطاع العام، الالتزام بأنماط تنظيمية محددة، قد لا تتناسب مع طبيعة العمل في بعض الأنشطة الاقتصادية والخدمية، ويفرض نوعاً من البيروقراطية تقف عقبة في وجه الإبداع والابتكار، كما يفرض عمالة تزيد عن حاجة العمل أو لا تتناسب مع احتياجاته، وأنظمة لا تتيح الفرصة لاستخدام الحوافز الإيجابية والسلبية، بمعنى الثواب والعقاب، بالشكل الذي يتناسب مع طبيعة النشاط.

كل ذلك ظواهر سلبية يعرفها الممارسون للعمل الإداري والباحثون فيه، ويفرضها الواقع الاجتماعي، والعلاقات غير الموضوعية بين الطفيليين وبعض المسؤولين، وهو واقع لا مجال لتجاهله، ولكن يبقى ويظل المجال مفتوحاً دائماً للتصدي لسلبياته.

إن هذا الواقع يتطلب المواجهة العلمية والعملية، والجرأة والتحدي والابتكار، والنظرة المستقبلية التي تنطلق من ظروف الحاضر، لتحدد أهدافاً واجبة التحقيق على المدى البعيد والمتوسط.

والقضية، على النحو الذي تمت الإشارة إليه، ليست قضية إدارية بحتة، بل قضية مجتمعية تستدعي نشر الوعي و تدعيم القيم والاتجاهات وأنماط السلوك المناسبة لها.

هذا وتشير بعض البحوث التي قامت بها الأمم المتحدة، إلى قصور الأداء الفعلي لاقتصاديات الدول النامية، ويجمع الباحثون على ان قصور النتائج يكمن في عيوب تنفيذ خطة التنمية، وليس في خطة التنمية ذاتها، وذلك لجمود الإدارة، وعدم مرونتها، وعدم قدرتها على التطوير، بمعنى ان الإدارة، على ما هو واضح، تعتبر من أهم عناصر وركائز خطة التنمية ونجاحها.

يضاف إلى ذلك ان الإرادة، إرادة التغيير، لا يمكن فصلها عن الإدارة، بل أنها لا بد وان ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً، إذا أردنا لأي نموذج إداري النجاح، وبالتالي لأي خطة تنمية تحقيق اهدافها. فإدارة البشر وارادة التغيير، تؤدي حتماً إلى الانتقال من مرحلة العمل الفردي إلى العمل الجماعي، ومن الإنتاج الفردي إلى الإنتاج العام.... والحكمة من ذلك هي تحقيق قيمة اجتماعية داخل المجتمع وهذا ما ترمي إليه أية خطة تنمية.

ان ما أوردناه يقودنا إلى انه مهما كانت الخطط صائبة ومهما كانت الغايات واضحة، ومهما كانت الطموحات هادفة، فإن الإدارة المتخلفة، والإدارة القائمة على الفردية، ومن غير الاعتماد على المؤسسات المؤهلة، قمينة بوأد الخطط، وزيادة التخلف، وتزيين الخراب، وللوصول إلى الإدارة الجماعية العلمية الناجحة والقدرة، لا بد من التغيير في الكفاءات والأشخاص وأنماط العمل والحاجة لارادة التغيير اكبر من أية حاجة أخرى.

إن الإدارة في قطرنا، بأمراضها المتوطنة ، وميدانها الضخم، وتأثيرها المتشعب، وتبديد الموارد، وقتل الابتكار والأفكار، بحاجة ماسة إلى تغيير جذري، وليس مجرد إصلاح جزئي، أو عمليات ترميمية، تلك هي نقطة البداية والانطلاق.

هذا ولا بد وان تتركز خطة الإصلاح على وضع استراتيجية عليا للإدارة داخل المجتمع، تتفهم ظروفه، وتتفهم طبيعة وابعاد الشخصية المحلية، التي تعتبر ضرورة لازمة، لتحقيق التنمية من ناحية، وللوصول إلى الفعالية الإدارية من ناحية ثانية.

إن الكلام عن الإصلاح الإداري، أو وضع نموذج محلي للإدارة، لا بد الا يتجاهل الظروف والأحداث العالمية، فلم يعد في وسع أية دولة معاصرة أن تعيش بمعزل عن تلك الأحداث والظروف، وليس بالضرورة أيضاً نقل نماذج بعينها للتطبيق، أو نظريات جامدة قد تكون ناجحة في مجتمع ما، فالواقع المحلي هو الذي يفرض النظرية والتطبيق أيضاً.

إن الإدارة، واصلاحها، هي المستقبل لنا وللتنمية التي ننشدها، والمستقبل الذي يصنعه الحاضر الذي نعيشه، ولا سبيل أمامنا الا العمل، والإدارة هي نقطة الانطلاق، وبداية حقيقية لأي تقدم.

ومن منطلق ان الإدارة العلمية السليمة هي المرتكز لأي تنمية، فقد جرت في قطرنا محاولات جمة لبناء صرح اقتصادي هام، غير ان بيروقراطية الإدارة وتخلفها، وما تسرب إليها، أو نما حولها من طفيليات، تنامت وتكاثرت أثناء خطوات التنمية الكبيرة الواسعة التي تمت خلال مرحلة السبعينات، كان عقبة بوجه الخطوات السليمة والناجحة لعملية التنمية، لا بل ان هذه الطحالب حرفت غايات وأهداف التنمية في الكثير من الأحيان عن مسارها السليم، ومع تنامي العمل، وتتابع الأيام، نمت هذه الطحالب والطفيليات، وتنامى نفوذها وأمسى لها ممثلون في السلطة، وأخذت ومن خلال الإدارة البيروقراطية والمتخلفة، تتدخل في خطوات التنمية، وتحرفها لمصلحتها، لا بل أطّرت الكثير من خطوات التنمية بإطار مصالحها الأنانية هذه المصالح التي تحولت إلى مليارات محفوظة في بنوك أجنبية خارج القطر.

لقد عطلت هذه الطحالب، ومن خلال الإدارة المتخلفة، وباستغلال الأساليب البيروقراطية، الكثير من خطوات تقدم قطاعات اقتصادية هامة، ومن هذه القطاعات، القطاع الصناعي، فتحولت الإدارة في مرحلة إلى عقبة في وجه إقامة مشاريع استثمارية وأساسية وضرورية.

إزاء دور الإدارة المذكور في عرقلة عملية التنمية الصناعية، هذا الدور الذي امتد إلى المشاريع المطلوب ترخيصها وفق أحكام القانون رقم /10/ لعام 1991 فقد تعرّض قائد البلاد السيد الرئيس الراحل، في خطابه أمام مجلس الشعب بتاريخ 12/3/1992 إلى دور الصناعة ومهامها في التنمية على الصعيد الوطني، وفي ضوء هذا التوجيه وما سبقه من توجيهات كانت هناك دراسات عديدة واسعة وشاملة لا زالت تصلح حتى هذا اليوم، إذا ما وضعت موضع التدقيق والتنفيذ، وقد كان إطار هذه الدراسات يدور حول أن التجربة التاريخية للعملية التنموية في العديد من البلدان تشير إلى ان جوهر التنمية يكمن في تنويع الهيكل الاقتصادي لهذه البلدان من جهة، والتحديث المستمر للمستوى التكنولوجي والعلمي للقطاعات الاقتصادية المتاحة من جهة أخرى، ونظراً لما يحققه وجود قطاع صناعي واسع وفعّال، من تنويع في اقتصاديات الدول النامية على نحو يساهم في تطوير المستوى التكنولوجي والعلمي لقطاعات الاقتصاد الوطني المختلفة، بالإضافة إلى ما ينجم عن ذلك من إعادة تشكيل وصياغة إطار متطور لمنظومة العلاقات الاجتماعية في هذه الدول، فهذا يحدو إلى ان نولي قطاع الصناعة في التنمية دوراً هاماً وان نعتبره شرطاً ضرورياً لا غنى عنه لأي تجربة تنموية حقيقية وناجحة.

هذه النظرة لدور الصناعة في التنمية ترتب على قطاع التصنيع مهاماً كبيرة وتلقي على كاهله أعباءً عديدة ومتنوعة ذاتَ أبعادٍ اقتصادية، تكنولوجية وكذلك اجتماعية، منها:

1 ـ إنتاج السلع وتقديم الخدمات للمساهمة في سد حاجات المجتمع والتخفيف من درجة الاعتماد على السوق الخارجية في هذا المجال، وكذلك توفير فوائض قابلة للتصدير تساعد على تحسين وضع ميزان المدفوعات والتبادل التجاري مع العالم الخارجي.

2 ـ التركيز على الصناعات المغذية التي تعتمد على المواد الأولية المحلية والتي من شأنها رفد صناعات أخرى بموادها الأولية، أو التي من شأنها ان تشكل تكاملاً بدءاً من المادة الأولية وحتى المنتج النهائي القابل للتصدير مثل قطاع الغزل والنسيج القطني.

3 ـ تعميق الترابط بين قطاعات الاقتصاد الوطني المتعددة وإزالة اختناقات محتملة لدى بعضها، حيث ان الكثير من مخرجات بعض القطاعات الاقتصادية تستخدم كمدخلات في القطاع الصناعي، كما أن جزءاً هاماً من مخرجات قطاع الصناعة يوظف كمدخلات في القطاعات الاقتصادية الأخرى (زراعة، بناء وتشييد، نقل ومواصلات ... وغيرها).

4 ـ المساهمة في توسيع القاعدة التكنولوجية للاقتصاد الوطني وتحديثها المستمر وفق معطيات الواقع وبما يتلاءم والمستوى العالمي في هذا المجال.

5 ـ توفير فرص عمل جديدة للقوى التي تدخل سوق العمل دورياً مما يشكل عامل ضبط وتوازن لحركة المجتمع وتفاعلاتها.

كل ذلك وغيره الكثير مما يمكن ان يُذكر عن مهام قطاع الصناعة يؤكد الدور الأساسي الذي يلعبه التصنيع باعتباره شرطاً ضرورياً من شروط التنمية.

وبوضوح لا لبس فيه، حدد السيد رئيس الجمهورية في خطابه أمام مجلس الشعب منذ  عام ونيف دور الدولة والمواطن في التنمية  عندما قال:

«إن تحقيق التنمية الاقتصادية مسؤولية تقع على عاتق الدولة كما هي واجب وطني يجب ان يقوم به جميع المواطنين، كلٌ في حدود إمكاناته وقدراته».

إذاً فتحقيق التنمية مسؤولية بالنسبة للدولة وواجب بالنسبة للمواطن، وفي مجال الصناعة وكي نستطيع تحمل عبء هذه المسؤولية، والقيام بهذا الواجب كمواطنين نرى ضرورة اعتماد منهج واضح ووضع برامج عملية وعلمية تحدد معالم الحركة في المستقبل توفر مستلزمات النجاح وتؤمن أسباب تحقيق الغايات.

وإذ نحاول وضع تصور لتحديد المنهج ووضع البرامج فيما يتعلق بالنشاط الصناعي في سوريا، فإنما نسترشد بالتوجيهات والتوجهات والدراسات والاقتراحات:

1 ـ في مجال القطاع العام:

انطلاقاً مما تقدم يمكن القول ان للقطاع العام في سوريا دوراً محورياً في عملية التنمية تمليه الضرورات الموضوعية الاقتصادية منها والاجتماعية. وكان الهدف الأساسي من قيام القطاع العام هو ان يكون القطاع الرائد في عملية التنمية الاقتصادية وان يساعد في تجميع المدخرات المحلية لتوفير الأموال الضرورية للاستثمار بما يحقق أهداف التنمية. وقد نجح هذا القطاع دون شك في تحقيق بعض هذه الأهداف، ولكن بدرجات متفاوتة، وإن غلب الهدف التمويلي على أهداف التنمية في معظم الأحوال، لأسباب خاصة بالسياسات الحكومية، وتبعاً لذلك فقد حرم القطاع العام من استخدام موارده الذاتية في عمليات الاستبدال والتجديد أو تطوير الفن الإنتاجي المستخدم وتحسين درجة جودة المنتجات مما افقده قدراً من التوازن بين الهدف التمويلي وأهداف التنمية.

وعلى أهمية القطاع العام ودوره الأساسي في التنمية الاقتصادية وبرفد القطاعين المشترك والخاص، فإن الواقع الحالي لهذا القطاع لم يعد يؤدي الغاية التي لأجلها أُحدث، ذلك ان تراكم الإهمال الإداري وتخلف أداء العمالة وتدخل بعض التنظيمات في شؤون الإدارة، وشؤون العاملين على نحو عشوائي ومن غير خطة تخدم هذا القطاع أورث ترهلاً في الإدارة وتخلفاً في الأداء ونقصاً في الإنتاج فضلاً عن سوء المواصفة وهذا ما أورث ويورث خسارات متراكمة تهدد كيان هذا القطاع الذي يعتبر اليد الطولى للإدارة وللدولة في تطوير الواقع الاقتصادي وفي رفد وتشجيع القطاع الخاص والمشترك بآن واحد.

وإذا كان إصلاح القطاع العام بشكل واسع وجذري يتطلب جهداً كبيراً فضلاً عن فترة زمنية ليست بقصيرة فلا بد من وضع تصور لاصلاح هذا القطاع والبدء بتنفيذ هذا التصور أو هذه الخطة في قطاع محدد حتى إذا نجحت هذه الخطة كانت نموذجاً لتعميمها على سائر هذا القطاع وبشكل تدريجي وعلى نحو يعيد الفاعلية الاقتصادية والإدارية فضلاً عن المردود.

إذ أن القطاع العام يتعرض منذ وقت غير قصير لكثير من الجدل,. فالبعض ينادي بتصفيته بطريقة أو بأخرى، بينما يدافع البعض من أجل إبقائه وهناك فريق ثالث ينادي بضرورة تطويره وتحريره من خلال حصر نشاطه في الصناعات الاستراتيجية وإيجاد الحلول المناسبة لما يعانيه من مشكلات، وهذا ما سنتعرض له لاحقاً.

 من هذا المنطلق ومع تأكيدنا على وجوب الحفاظ على القطاع العام وتطويره رأينا أن نطرح نموذجاً لتجربة في هذا القطاع تبدأ بتأهيل العاملين وتحديث أسلوب الإدارة والفصل بين دور المالك وإدارة المنشأة على أن تكون هذه المنشأة اقتصادية في مسارها فضلاً عن تحقيقها نوعاً من التوازن في المصالح بين سائر أطراف هذه المؤسسة بمعنى أن تحقق توازناً بالمصالح بين مالك وسيلة الإنتاج وبين العامل والإدارة فضلاً عن مستهلك إنتاج هذه المؤسسة سواء كان محلياً أو خارجياً.

وفي هذا المجال سنشير وبشكل مكثف ومختصر إلى بعضٍ من أهم القضايا التي تؤثر على أداء  هذا القطاع بهدف معالجتها بغية تحسين مردوده الاقتصادي وتفعيل دوره الاجتماعي وهذه القضايا هي:

1 ـ 1 ـ القواعد الحاكمة للإدارة: ونرى في هذا المجال إعادة صياغة هذه القواعد على نحو يحقق التوازن بين دور المالك ودور الإدارة.

1 ـ 2 ـ أسلوب التخطيط: إن مرحلة التطور التي بلغها الاقتصاد الوطني في سورية وخاصة توسع نشاطات قطاعاته المتعددة، عام، خاص ومشترك، بفضل التعميق المتزايد لنهج التعددية الاقتصادية، يقتضي ضرورة تطوير أساليب التخطيط المألوفة سابقاً لدينا بحيث نصل إلى تحقيق صلة وثيقة بين الخطة والسوق.

1 ـ 3 ـ الأنظمة والتشريعات: ونؤكد هنا على ضرورة إجراء مراجعة شاملة للأنظمة والتشريعات النافذة لدينا في القطاع العام وتطويرها بهدف إزالة الخلط والتشابك ضمن صلاحيات الواقع المختلفة في الهرم الإداري وبما يوفر المرونة الكافية لصاحب القرار لاتخاذ القرار المناسب في الزمن المناسب وبما يؤدي في النهاية إلى إعادة التوازن الضروري والمطلوب لمعادلة الصلاحية والمسؤولية في العملية الإدارية.

1 ـ 4 ـ المستوى التكنولوجي والفني: وهنا لا بد من التأكيد على تنفيذ خطط التجديد والتطوير وجعل نسبة الاهتلاكات أمانة لحساب القطاع العام تستخدم لهذه الغاية، بالإضافة إلى وجوب تخصيص نسبة من الأرباح لغايات البحث العلمي الهادفة لتطوير تقنيات هذا القطاع وتحسين إنتاجه.

1 ـ 5 ـ السياسات المالية: في هذا المجال سنكتفي بالإشارة إلى بعض من أهم المشاكل التي تستوجب الحل دون الدخول في تفصيلها":

ـ تحديد رؤوس أموال شركات القطاع العام.

ـ حل مشكلة التشابكات المالية بين جهات القطاع العام المختلفة.

ـ معالجة قضية الفارق بين السعر الاجتماعي الذي تحدده الدولة أحياناً لبعض السلع وهو اقل من سعر الكلفة، والسعر الاقتصادي الذي يحدده المنتج (الكلفة + هامش ربح) عن طريق إيجاد جهة أو صندوق يتولى تغطية هذا الفرق بالنسبة لهذه السلع، هذا إلى جانب عقلنة فرز القوى العاملة إلى هذا القطاع وجعلها متناسبة مع حاجياته الفعلية، وفصل جميع المفرغين أو المتفرغين للعمل النقابي أو السياسي أو الإداري، عن هذا القطاع، وجعلهم تابعين للجهات التي يعملون فيها أو لصالحها.

1 ـ 6 ـ الرقابة والتفتيش: التأكيد على ضرورة إعادة النظر في أسلوب ممارسة العملية التفتيشية لدى جهات القطاع العام المختلفة على ان يتم ذلك وفق الأسس التالية:

ـ التحديد الدقيق والواضح للجهات المخولة قانوناً بممارسة العملية التفتيشية على ان يكون عددها قليلاً قدر الإمكان، أما الجهات الأخرى فيمكن ان تمارس الرقابة غير المباشرة دون ان يكون لها الحق في القيام بأي نشاط تفتيشي، لا بل تفعيل عمل الرقابة بأسلوب علمي لتدارك الخطأ.

ـ أن يكون أساس العمل التفتيشي وغايته تحقيق الهدف الاقتصادي، أما الوسائل والسبل فيكفي ان تكون ضمن التوجه العام للأنظمة والتشريعات وليس هناك ضرورة لان تتطابق مع حرفيتها.

1 ـ 7 ـ الحافز الفردي والجماعي: وهنا قد تتعدد الصيغ والاقتراحات  إلا أن جميعها يجب ان يراعي المبدأ التالي:

ما دام العمل واجب فالحافز المادي والمعنوي حق.

وفي هذا المجال نرى ضرورة إعادة النظر في أنظمة الحوافز المعمول بها في القطاع العام مع مراعاة المبدأ المشار إليه آنفاً، وفصل الحافز الإنتاجي عن الحافز  الإداري، وحصر هذا الأخير بنسبة مما تحققه الإدارة من أرباح للشركة.

وللوصول إلى هذا الهدف، ولتحفيز كل من العاملين على خطوط الإنتاج والإدارة ولتحقيق إدارة عمل إنتاجية حقيقية وعمالة مؤهلة وقادرة وراغبة في الأداء المتطور يمكن الإشارة إلى ما يمكن آخذه بالاعتبار كالآتي:

1 ـ تأهيل وإعادة تأهيل القوى العاملة في المنشأة الصناعية على نحو تجعل سائر العاملين في هذه المنشأة بمستوى فني ينعكس على إنتاج سليم بالمواصفة والكمية وبالتالي يحقق قيمة مضافة كأمثال هذه المنشأة في سائر البلدان.

2 ـ إيلاء إدارة هذه المنشأة عناية خاصة سواء في انتقاء أشخاص الإدارة أو في تأهيل وتدريب هذه الإدارة وجعل هذه الإدارة مستقلة بعيداً عن تدخل المالك.

3 ـ حصر دور مالك وسائل الإنتاج ( أي الدولة) بالدور المناط في الجمعية العامة للشركات المساهمة أو للهيئة العامة لاصحاب الحصص في الشركات محدودة المسؤولية بمعنى حصر مهمة مالك وسائل الإنتاج في التخطيط والمراقبة والمحاسبة على النتائج والمردود والأرباح المحققة.

4 ـ تحميل الإدارة مهمة سد حاجة السوق وتحديد نوعية المطلوب من الإنتاج سواء للسوق المحلية أو للسوق الخارجية والبحث عن مستلزمات الإنتاج من مصادرها بأحسن مواصفات وافضل الأسعار مع مراقبة دائمة ومستمرة لجاهزية وسائل الإنتاج ولمنع الهدر ولتحقيق نوعية وكمية من الإنتاج تتساوى مع مستوى المنشآت الصناعية في القطاع الخاص ولا نعني القطاع الخاص المحلي فقط بل مستوى الإنتاج ونوعيته في البلدان المجاورة والبلدان الصناعية المتطورة.

5 ـ حصر نشاط النقابات في مهماتها المنصوص عليها في القانون ومنع هذه التنظيمات من التدخل في أعمال الإدارة حتى لو كان لها ممثل في مجلس الإدارة فيقتصر دور هذا الممثل على صلاحية عضو مجلس إدارة ليس إلا.

6 ـ وضع برنامج للحوافز يتجه باتجاهين:

آ ـ حوافز إنتاجية تدرس على أساس خفض التكلفة وتحسين النوعية وزيادة الإنتاج مع رعاية وصيانة وسيلة الإنتاج بشكل مستمر وهذه تقتصر على العاملين في القطاع الإنتاجي فحسب.

ب ـ تحفيز الإدارة بنسبة من الأرباح التي تحققها الشركة بعد تصريف الإنتاج وتسويقه داخلياً وخارجياً مع تحقيق القيمة المضافة المتعارف عليها في هذا القطاع.

     ولئن كان هذا مجرد اقتراح لزيادة دخل العاملين في القطاع الإنتاجي، لكنه لا بد من إعادة النظر في رواتب واجور سائر العاملين في الجهات العامة، لانه من غير تأمين كفاية اجرية للعاملين، لا يمكن الحصول على المردود المطلوب من العمل، ويكفي ان نشير هنا، إننا لو أخذنا عام 1980 أساساً للمقارنة وانطلقنا من هذا الأساس وحتى هذا اليوم، نجد ان الرواتب زادت بنسبة أربع مرات تقريباً، في حين زادت قيمة المواد الاستهلاكية الضرورية بنسبة عشرين مرة أي ان القيمة الشرائية لدخل الموظف أو العامل تدنت خمس مرات، وهذا أمر يدعو إلى إعادة النظر بشكل موضوعي، وقد ترافق هذا التدني بالقوة الشرائية للموظف أو العامل تنامٍ بالاتفاق غير المبرر ويكفي ان نلقي نظرة على انتشار سيارات الجهات العامة وتوزيعها العشوائي واستخدامها غير المشروع، لنجد أن أية معادلة حسابية لترشيد توزيع واستخدام السيارات قمين بزيادة الرواتب بنسبة معقولة.

7 ـ أعود لاقول أنه وللوصول إلى مثل هذا الهدف لا بد من البدء بتأهيل العاملين وهذا يكون بأكثر من أسلوب ونقترح الآتي:

أ ـ إيجاد أسلوب بالتعاون مع جهة مختصة لفتح دورات تدريبية لتأهيل العاملين على العمل بوسائل الإنتاج الحالية على أساس صيانة وتأهيل هذه الوسائل ورفع مستوى أدائها والوصول إلى افضل إنتاج يمكن الحصول عليه من خلال هذه الآلات.

ب ـ مع هذا التدريب الذي لابد أن يشمل سائر العاملين وحسب مراحل الإنتاج ووسائله لا بد من حصر العدد المطلوب والأهلية المتوفرة لوسائل الإنتاج الحالية كي لا يسبب زيادة عدد العاملين إلى تعطيل العملية الإنتاجية ومحاولة  الاستفادة من فائض العمالة المدربة بأقسام إنتاجية يمكن إحداثها تدريجياً للاستفادة من طاقة هذه العمالة.

جـ ـ مع الاستمرار في العملية الإنتاجية من خلال وسائل الإنتاج المتوفرة مع صيانتها وتحديثها لا بد من دراسة إيجاد وسائل إنتاج جديدة للوصول إلى إنتاج حديث يلبي حاجات السوق المتطورة ويساير متطلبات الأسواق المحلية والخارجية. ويكون أهلاً للمنافسة وبالتالي لفتح أسواق أمام هذا المنتج.

د ـ إذا لم تتوفر السيولة لدى القطاع العام يمكن الدخول بشراكة مع القطاع الخاص المحلي أولاً والعربي والخارجي ثانياً لتأمين مستلزمات الإنتاج المتطورة والحديثة للاستمرار في الإنتاج بشكل شركات مشتركة تستفيد من العمالة المتوفرة لدى القطاع العام فضلاً عن فتح آفاق جديدة لتشغيل يد عاملة متوافرة في الأسواق المحلية.

هـ ـ يتم إعادة تأهيل العاملين الذين سيفرزون للعمل على وسائل الإنتاج الجديدة والتي يتم شراؤها سواء لحساب القطاع العام إن توفرت السيولة أو التي يمكن شراؤها بالمشاركة مع القطاع الخاص على ان يكون للمنشأة الجديدة الرديفة للقديمة شكل قطاع مشترك مستقل عن المنشأة السابقة ومتمم لها ومكمل للصناعة التي لا بد من الاستمرار فيها.

و ـ إذا كانت هذه التجربة ستبدأ بقطاع أو بأكثر مما تتوافر له مستلزمات الإنتاج المحلية والذي يحقق قيمة مضافة كبيرة فلا بد من دراسة بعض القطاعات التي لا جدوى من تحديثها وذلك بالاستغناء عن هذه المنشآت غير المجدية وتحويلها لتكون رديفاً أو متمماً لمنشآت ذات جدوى قائمة أو يمكن إقامتها  وعلى سبيل المثال فلا بد من أن يبدأ القطاع العام بالاستغناء عن بعض المنشآت مثل صناعة البسكويت المتخلفة، أو البطاريات أو المنظفات أو الكبريت أو ما شابه..

8 ـ لتحقيق مثل هذه التصورات لا بد من بحث مفصّل ودقيق، مع مراعاة الجدوى الاقتصادية، والأخذ بالاعتبار أهمية التخلي عن بعض الصناعات الصغيرة التي هي في الأصل ليست من استراتيجيات القطاع العام.

9 ـ يضاف إلى ذلك أهمية ايلاء مراكز التدريب الأهمية اللازمة خاصة وان المراكز الحالية لا تلبي الحاجة ولا تفي بالغرض وهذا ما يحدو إلى الدخول بمفاوضة مع جهات خاصة محلية وأجنبية لإنشاء مراكز تدريب حديثة أو لتطوير وتحديث بعض مراكز التدريب العائدة للقطاع العام لتكون منطلقاً لتدريب وتأهيل وإعادة تأهيل العاملين في القطاعات المختلفة.

10 ـ ان الاتفاق مع جهات خاصة مختصة لإنشاء مراكز التدريب المبحوث عنها يمكن ان يؤدي إلى اتفاق آخر باشراك هذه المراكز بالإشراف على العملية الإنتاجية داخل المعامل القائمة والمطلوب تطويرها وإعادة تأهيلها كما يمكن ان يكون في المنشآت الجديدة التي يمكن إحداثها سواء لحساب القطاع العام بشكل مستقل أو لحساب قطاع مشترك يمكن ان يتم بالمشاركة مع بعض الشركات أو المؤسسات القائمة.

11 ـ إننا إذ نقترح هذا الأسلوب التدريجي لاعادة تأهيل ما هو قائم مع التحديث والتطوير، فذلك يمهد، في حال نجاح التجربة، ليشمل هذا التحديث سائر أنشطة القطاع العام بعد التخلص من بعض الصناعات غير ذات الجدوى مما هو قائم حالياً ومما أورثه التأميم ولم يكن نتيجة دراسة علمية لدور القطاع العام في العملية الإنتاجية.

تلك تصوّرات لبدء تحديث القطاع العام وتفعيل دوره وزيادة إنتاجه على أساس اقتصادي وتحقيق قيمة مضافة ذات جدوى اقتصادية حقيقية ولتأمين إنتاج يمكن ان يحقق فتح أسواق محلية وعربية وأوروبية وهذا أمر ملح لأن سوريا أمام استحقاقات هامة وأساسية فعدا عن أن إغلاق السوق أورث إنتاجاً متخلفاً فإننا أمام انفتاح تدريجي وأمام استحقاق السوق العربية المشتركة. وأمام استحقاق أوسع وأكبر وهو متطلبات الشراكة الأوروبية . فلا بد من إيجاد إنتاج بنوعية ومواصفة يمكن ان يجد له مكاناً في الأسواق العربية والأوروبية. ويمكن ان يكون سلعة قابلة للتبادل مع ما قد تصدره لنا الأسواق المذكورة، هذا إلى جانب إمكانية الاستفادة مما قد تقدمه السوق الأوروبية المشتركة من معونات فنية ومالية للمساهمة في هذا التطوير المبحوث عنه. هذا إلى جانب ان الواقع الاقتصادي في العالم يفرض على الدول الصغيرة تطوير إنتاجها وتحسين هذا الإنتاج والاعتماد على الصناعات التي تجد موادها الأساسية محلياً وذلك لحماية الاقتصاد المحلي وحماية الأسواق المحلية من المنافسة الخارجية ولمنع وأد صناعاتنا وتحويل قطرنا إلى مصدر للمواد الأولية وحسب.

إن هذه التصورات العامة تتطلب دراسة شاملة ووضع أولويات لبدء التطوير والتحديث   بغية النهوض بالصناعة المحلية مع تشجيع القطاع الخاص على تحسين نوعية إنتاجه وتوسيع نطاق هذا الإنتاج في مجالات مختلفة لكي لا تؤد وتتلاشى الصناعات المحلية المتخلفة في نوعية إنتاجها، سواء في القطاع العام أو الخاص، لأن الصناعات التي قامت في القطاع الخاص لا تتصف بالمواصفات التي تؤهلها من المنافسة أو من الوقوف في وجه ما قد يصدر إلينا من منتجات سواء من الأسواق العربية أو الأوروبية.

إننا إذ نتقدم بهذا الاقتراح فلا ننطلق من فراغ لأن الواقع الإنتاجي في القطاع العام أمسى متردياً ولا بد من تحديثه كما ان الإنتاج في القطاع الخاص نشأ متخلفاً لأنه استغل الحماية ومنع الاستيراد وهذا ما يحتم العمل على إعادة تأهيل القطاع الصناعي وتحديثه وتطوير نوعيته بما يتفق مع المواصفات العالمية ومع متطلبات الأسواق الحديثة الداخلية والخارجية. ومن غير ذلك فقد تتسبب المنافسات جراء فتح الأسواق ولو بالتدريج إلى منافسة لا يقوى عليها القطاع الصناعي بشقيه العام والخاص.

إن هذه النظرة أو التصور لدور الصناعة في التنمية ترتب على قطاع التصنيع مهاماً كبيرة وتلقي على كاهله أعباء عديدة ومتنوعة ذات أبعاد اقتصادية وتكنولوجية، وكذلك اجتماعية، الأمر الذي يحتم القيام بالآتي:

1 ـ إنتاج السلع  والخدمات للمساهمة في سد حاجات المجتمع والتخفيف من درجة الاعتماد على السوق الخارجية في هذا المجال، وكذلك توفير فوائض قابلة للتصدير تساعد على تحسين وضع ميزان المدفوعات والتبادل التجاري مع العالم الخارجي.

2 ـ التركيز على الصناعات المغذية التي تعتمد على المواد الأولية المحلية والتي من شانها رفد صناعات أخرى بموادها الأولية، أو التي من شأنها أن تشكل تكاملاً بدءاً من المادة الأولية وحتى المنتج النهائي القابل للتصدير مثل قطاع الغزل والنسيج القطني، وقطاع الأسمنت، وقطاع منشآت النفط والغاز.

3 ـ تعميق الترابط بين قطاعات الاقتصاد الوطني وإزالة اختناقات محتملة لدى بعضها، حيث ان الكثير من مخرجات بعض القطاعات الاقتصادية تستخدم كمدخلات في القطاع الصناعي كما أن جزءاً هاماً من مخرجات قطاع الصناعة يوظف كمدخلات في القطاعات الاقتصادية الأخرى (زراعة ، بناء وتشييد، نقل ومواصلات.. وغيرها).

4 ـ المساهمة في توسيع القاعدة التكنولوجية للاقتصاد الوطني وتحديثها المستمر وفق معطيات الواقع وبما يتلاءم والمستوى العالمي في هذا المجال.

5 ـ توفير فرص عمل جديدة للقوى التي تدخل سوق العمل دورياً مما يشكل عامل ضبط وتوازن لحركة المجتمع وتفاعلاتها.

كل ذلك وغيره الكثير مما يمكن أن يذكر عن مهام قطاع الصناعة يؤكد الدور الأساسي الذي يلعبه التصنيع باعتباره شرطاً ضرورياً من شروط التنمية.

وبوضوح لا لبس فيه، حدد السيد رئيس الجمهورية في خطابه أمام مجلس الشعب دور الدولة والمواطن في التنمية عندما قال.

«إن تحقيق التنمية الاقتصادية مسؤولية تقع على عاتق الدولة كما هي واجب وطني يجب أن يقوم به جميع المواطنين، كل في حدود إمكاناته وقدراته».

إذاً فتحقيق التنمية مسؤولية بالنسبة للدولة وواجب بالنسبة للمواطن وفي مجال الصناعة وكي يستطيع القطر تحمل عبء هذه المسؤولية والقيام بهذا الواجب لا بد من اعتماد منهج واضح، ووضع برامج عملية وعلمية تحدد معالم الحركة في المستقبل لتوفير مستلزمات النجاح وتأمين أسباب تحقيق الغايات.

وتحقيق هذه الغايات يؤدي بالضرورة إلى تطوير الواقع الاجتماعي والمعاشي، ويورث طمأنينة لدى المواطنين ويجعلهم يشعرون انهم جزء فاعل في المجتمع، وذلك في محاولة لترسيخ فكرة الانتماء إلى المجتمع وللحد من التركيز على القيم المادية دون القيم المعنوية والاجتماعية بالنهج والنظام، مما يحوّل بالضرورة أي نقاش حول ممارسات الحريات الديمقراطية مؤطراً بإطار النظام الذي ضمن للمجتمع مستوى مقبولاً من العيش. وحقق قيماً اجتماعية مادية ومعنوية.

2 ـ وفي هذا المجال لا بد من التطرق أيضاً إلى القطاع الخاص والمشترك باختصار:

فتجسيداً لمبدأ التعددية الاقتصادية وانسجاماً مع ما جاء في خطاب السيد رئيس الجمهورية وخاصة منه «أن الدولة عندما قررت التعددية الاقتصادية فقد قررت تقديم الدعم والتسهيلات للقطاعات الثلاث العام والخاص والمشترك لان هذه التعددية تفتح الباب أمام كل مواطن لممارسة نشاطه الاقتصادي وفق رغبته وحسب القطاع الاقتصادي الذي يختار العمل فيه لأن الوطن بحاجة إلى جهود جميع أبنائه».

تبعاً لهذا التوجيه بذلت جهود حثيثة لتحقيق أقصى ما يمكن من التفاعل والتعاون والتنسيق بين عمل ونشاطات القطاعات الثلاث من اجل الاستفادة القصوى مما تملكه هذه القطاعات من طاقات وما يتوفر لديها من إمكانيات حيث صدر العديد من التعليمات والقرارات المتعلقة بذلك، منها على سبيل المثال:

ـ القرار رقم 4341 لعام 1988 والمتضمن تحديد مجالات النشاط الاقتصادي للقطاعات الثلاث على أساس توسيع دارة هذا النشاط للقطاعين الخاص والمشترك بقدر ما تسمح به معطيات الواقع وظروفه، ووفق توجهات القيادة.

ـ القرار رقم 6238 لعام 1989 والذي يتضمن وجوب تقيد المنتج بالمواصفات القياسية  الوطنية والعالمية، تحت طائلة المساءلة.

ـ تبسيط إجراءات الترخيص للقطاع الخاص إلى أدنى حد ممكن.... وغيرها.

ومع ذلك فلا زال هنالك وفي هذا المجال بعض من القضايا لا بد من معالجتها، لذا نرى ان تهدف خطط الدولة مسبقاً إلى مراعاة ما يلي:

1 ـ 1 ـ تحقيق توزيع جغرافي مناسب لمواقع الصناعات وتزويدها بالمرافق والخدمات الضرورية والعمل على توظيفها وفق الإمكانات الإنمائية المتوافرة في المحافظات.

1 ـ 2 ـ تشجيع الصناعات القائمة وخاصة تلك المتواجدة بين التجمعات السكنية للانتقال إلى المناطق الصناعية المنظمة والمعدة لهذه الغاية.

1 ـ 3 ـ منح تسهيلات ومزايا تفضيلية للمشاريع التي تقام في المناطق النائية عن مراكز المدن الكبيرة بهدف تحقيق عدالة أكبر في توزيع فرص التنمية بين المناطق المختلفة.

1 ـ 4 ـ وضع الأنظمة المتعلقة بإقامة واستثمار المناطق الصناعية أو التجمعات  والمدن الصناعية بشكل عام.

1 ـ 5 ـ إعادة رسم الخريطة السكانية من خلال مزايا وتسهيلات توضع لغاية جذب النشاط السكاني والاقتصادي عموماً إلى المناطق البعيدة عن مراكز المدن المزدحمة للوصول إلى تنمية متوازنة تعمل على الاستفادة من الموارد الإنمائية المتاحة في تلك المناطق.

1 ـ 6 ـ التشجيع على إنشاء المدن والتجمعات الصناعية والعمرانية وفق خطط إقليمية مستمدة من خطة شاملة على المستوى الوطني.

1 ـ 7 ـ تهيئة المناخ الملائم لاجتذاب رؤوس الأموال إلى المناطق والتجمعات الجديدة عن طريق التسهيلات والمزايا والإعفاءات المختلفة، وتأمين الخدمات اللازمة للصناعة والنشاطات الاقتصادية الأخرى لتمكينها من أداء وظيفتها بشكل جيد.

1 ـ 8 ـ تشجيع الصناعات الصغيرة والحرفية والمنزلية في الريف ومساعدة القائمين عليها في تسويق منتجاتهم، بغية خلق فرص عمل جديدة لسكان الريف مما يساهم في تخفيف الهجرة باتجاه المدن ويوفر ظروفاً أفضل للاستقرار السكاني في المناطق الريفية.

القطاع العام ودوره في إدارة التنمية الاقتصادية:

أعود هنا إلى القطاع العام ودوره في إدارة التنمية الاقتصادية، إذ على رغم ما أشرنا إليه حول إعادة تأهيل القطاع العام وتحفيز العاملين فيه، لا أرى مندوحة من التطرق لما يثار حول هذا القطاع من اقتراحات، وحول أهمية هذا القطاع ودوره في التنمية وتحقيق أهدافها.

فالكل يعرف ان القطاع العام يتعرض منذ وقت غير قصير لكثير من الجدل، إذ ينادى البعض بتصفيته بطريقة أو أخرى، بينما يدافع البعض من أجل إبقائه، وهناك فريق ثالث ينادي بضرورة تطويره وتحريره من خلال قصر نشاطه على الصناعات الاستراتيجية وإيجاد الحلول المناسبة لما يعانيه من مشكلات.

ويدعم الفريق الأول دعوته بمستوى الإنجاز المتواضع الذي حققته وحدات القطاع العام في مختلف الأنشطة كما يتضح من تدني صافي معدل العائد على الأموال المستثمرة في هذا القطاع، بالمقارنة بما تحققه بعض المشروعات الخاصة، كما يدعمون هذه الدعوة بالانخفاض الواضح في قيم المعايير الأخرى كالكفاءة الاقتصادية والمالية، وانخفاض درجة جودة منتجاته بالمقارنة مع القطاع الخاص أو المستوردات.

ويرى أصحاب الاتجاه الثاني انه لا يمكن القول بوجود علاقة مباشرة بين ملكية الدولة للقطاع العام وتدني مؤشرات الربح في هذا القطاع، فلقد ساهم القطاع العام في تحقيق أهداف التنمية، وفي خلق الكثير من فرص العمل، للمواطنين، وفي تمويل الإنفاق الحكومي للأغراض العسكرية والاجتماعية، مثل الدعم والتأمينات الاجتماعية ومجانية التعليم...الخ.

أما بالنسبة لتدني درجة جودة المنتجات والخدمات المقدمة من بعض وحدات القطاع العام، فإن ذلك يرجع جزئياً إلى الاتساع الكبير في نشاط القطاع العام، حتى شمل الكثير من الأنشطة التي كان في مقدور القطاع الخاص القيام بها عند مستوى افضل من الكفاءة، ويرى أصحاب هذا الاتجاه، انه قد يكون من الأجدى إعادة النظر في الأنشطة، التي يجب ان يتركز فيها نشاط القطاع العام.

وهنا لا بد لي من الإشارة إلى أن القيادة الحكيمة في القطر حسمت مثل هذا الجدل وأكدت على أهمية القطاع العام ووجوب استمراره كأداة رئيسة داعمة ومنشطة للقطاعات الأخرى بغية تحقيق أهداف التنمية، ومن هذا المنطلق يمكن القول أن الهدف الأساسي من قيام القطاع العام كان ولا زال هو ان يكون القطاع الرائد في عملية التنمية الاقتصادية وان يساعد في تجميع المدخرات المحلية لتوفير الأموال الضرورية للاستثمار بما يحقق أهداف التنمية ويؤكد أنصار هذا الاتجاه ان القطاع العام قد نجح دون شك في تحقيق هذه الأهداف، ولكن بدرجات متفاوتة، وان غلب الهدف التمويلي على أهداف التنمية في معظم الأحوال، لاسباب خاصة بالسياسات الحكومية، ونتيجة لذلك حُرم القطاع العام من استخدام موارده الذاتية في عملية الاستبدال والتجديد أو تطوير الفن الإنتاجي المستخدم وتحسين درجة جودة المنتجات، لهذا فمن الضروري تحقيق قدر من التوازن بين الهدف التمويلي واهداف التنمية.

والاتجاه الغالب في القطر، يرى ضرورة الاعتماد على القطاع العام، وضرورة تحريره وتطويره في نفس الوقت، حتى يمكن ان يحقق الأهداف المنوطة به وهي تحقيق الاستخدام الأمثل والتشغيل الأمثل للموارد المتاحة له لتحقيق أهداف التنمية. ويستلزم هذا تركيز نشاط القطاع العام على المصنوعات ذات الأهمية الاستراتيجية، وتحرير وتطوير الوحدات المنتجة التي تعمل في هذا المجال، أما الأنشطة الأخرى فيجب تركها للمبادرة الفردية، هذا، على ان يكون تطوير القطاع العام جزءاً من فلسفة إصلاحية شاملة للمسار الاقتصادي للدولة تأخذ في الاعتبار ترشيد السياسات المالية والنقدية والاقتصادية والتخفيف من مسؤولية إدارة الاقتصاد الوطني.

ومن أجل تحرير وتطوير الوحدات التي تعمل في الأنشطة الاستراتيجية، لا بد من مراعاة الآتي:


أولاً ـ نطاق نشاط القطاع العام:

لا بد ان يتركز نشاط القطاع العام على الأنشطة ذات الأهمية الاستراتيجية الأساسية، فقد شهدت الحقبة الماضية اتساعاً كبيراً في نشاط القطاع العام، حتى شمل شطراً هاماً من قطاع الخدمات والتوزيع والصناعات الصغيرة، مثل خدمات النقل بأنواعه والتجارة الخارجية والداخلية، وشركات السياحة والفنادق، والكثير من الصناعات الاستهلاكية غير الأساسية، والورش الصناعية والبقالة وغير ذلك من الأنشطة البسيطة، وفي نفس الوقت لم يكن في مقدور الجهاز الإداري الحكومي، بطبيعته مهيأ لتحمل هذه المسئولية الضخمة وادارة كل هذه المشروعات، طبقاً لمقتضيات الكفاءة الاقتصادية.

ثانياً ـ الإطار التنظيمي:

من أهم الخطوات التي يمكن ان تساهم في التغلب على الكثير من المشكلات التي تواجه القطاع العام، ضرورة التمييز بين دور مالك وسائل الإنتاج  في التخطيط والمراقبة والمحاسبة وبين دور الإدارة، واعطاء إدارة المشروعات حرية تنفيذ الخطط واتخاذ القرارات التي تضمن حسن سير العمل بها وفقاً للظروف الخاصة بالوحدة المنتجة، وتبعاً للمناخ العام السائد على المستويين المحلي والعالمي. هذا على ان يكون المعيار الأساسي، في تقييم إدارة المشروع، مدى نجاحه في تحقيق مقتضيات الكفاءة الاقتصادية في استخدام وتشغيل الموارد الاقتصادية المتاحة.

ويرى البعض إلغاء المؤسسات، وإنشاء شركات قابضة تدير رؤوس أموال الشركات العاملة في قطاع أو نشاط معين. إلا أن هناك تحفظاً حول احتمال محاولة تدخل هذه الشركات بصفة مستمرة في العمل التنفيذي للوحدات التابعة لها، دون ان يكون هناك مبرر معقول لهذا التدخل.

والبعض يقترح أيضاً إنشاء جهاز مركزي أو أكثر حسب طبيعة النشاط أو درجة الارتباط بين أنشطة مختلفة، لا يخضع لوزير معين، بل يتبع مجلس الوزراء مباشرة. وبذلك يمكن ضمان عدم تدخل الوزارات في إدارة وحدات القطاع العام، أما الجهاز المقترح فينحصر دوره في ملكية راس المال، حتى يتسنى له إحكام الرقابة على عمليات هذه الوحدات، ومساعدتها وتوجيهها لتحقيق الأهداف الاقتصادية للدولة.

ويمكن لهذا الجهاز ان يقوم بالتنسيق بين الوحدات الإنتاجية المتشابهة والمتكاملة، وبدراسة إمكانية التكامل، بين هذه الوحدات، ومدى اتفاق حجمها مع الحجم الأمثل للإنتاج في نشاط معين على نحو يمكّن من خفض نفقات الإنتاج وانسياب عمليات الإنتاج. على ان يكون من حق هذا الجهاز تصفية بعض الوحدات التي يثبت عدم جدواها اقتصادياً.

هذا ومن الضرورة بمكان التأكيد على أنه في حال انشاء هكذا جهاز أن يبقى للوحدات المنتجة الحرية التامة في إدارة شؤونها وتحديد سياساتها المختلفة الخاصة بالأسعار والتسويق والعمالة والأجور ووضع نظامها الداخلي، بالتنسيق مع هذا الجهاز، على ان تكون هذه الوحدات مسؤولة عن نتائج أعمالها.

ثالثاً ـ العمالة:

على رغم سبق الكلام عن تحفيز العمالة، فمن الضروري ترشيد سياسة العمالة المطبقة حالياً، والكف عن إلزام الوحدات المنتجة باستخدام عمالة ليست في حاجة إليها، و تطوير نظام تأمين البطالة وتحويله إلى نظام متعدد الأغراض للتأمين ضد البطالة، وإعادة التدريب والتأهيل وفقاً لمتطلبات الإنتاج حتى يمكن تحويل العمالة الزائدة في وحدة ما إلى وحدة أخرى تعاني من نقص في العمالة.

كذلك من الضروري إعادة النظر في مبدأ وحدة التشريع المطبق على مشروعات القطاع العام، والذي لا يأخذ في الحساب، عند تحديد الأجور والحوافز، التباين الواضح في طبيعة الأنشطة التي تقوم بها المشروعات المختلفة، وما يتبع ذلك من إهدار للعلاقة بين الأجر والإنتاجية. هذا في حين ان الرشد الاقتصادي يستلزم الربط بين هذين المتغيرين.هذا الىجانب اعادة النظر في لنظم الشراء والبيع والتي مضى عليها الزمن.

ومن الأهمية بمكان تطوير نظام تعيين رؤساء وأعضاء مجالس إدارات الشركات، من خلال الالتزام عند تعيينهم بالمعايير الموضوعية والضرورات المهنية.

وحتى يمكن خلق جيل جديد من قيادات القطاع العام يتفهم تماماً الظروف التي فرضت تطوير وتحرير القطاع العام، وعلاقة ذلك بالظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد، ويكون حريصاً وقادراً على تحمل المسؤولية، فمن الضروري دعم ورفع كفاءة برامج تدريب وتنمية المهارات الإدارية والفنية لجميع العاملين. وجعل التدريب الجاد شرطاً للترقية، هذا على ان يشمل التدريب جميع المستويات، بما في ذلك الإدارة العليا.

كذلك يجب مراعاة الأهمية البالغة للأجور على نفسية العاملين ومراعاة مدى ولائهم وارتباطهم بالمشروع الذي يعملون فيه. كما ان تدني الأجور قد يدفع العاملين إلى ترك الوحدة المنتجة إن أتيحت لهم فرصة عمل أخرى سواء في داخل البلاد أو خارجها، لذلك لا بد من إعادة النظر في النظم الحالية للأجور والحوافز، وفق ما سبقت الاشارة إليه ووضع سياسة عامة لهذه المتغيرات، تأخذ في الحساب العوامل الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، عند تحديد الأجور والحوافز، على نحو تتحقق فيه توسيع دائرة أصحاب الحقوق في المؤسسة المنتجة، لان هؤلاء جميعاً أصحاب حق في مستقبل المؤسسة، مما يحتم اخذ مصالحهم المشروعة في الاعتبار وعلى أساس من التوازن.

رابعاً ـ سياسة الأسعار:

يتعين عند وضع سياسة الأسعار، ان يكون تحديد الأسعار على أساس النفقات الحقيقية للإنتاج من  غير اغفال استغلال كامل الطاقات، مع إضافة هامش معقول للربح، وهو ما يعرف في الأدب الاقتصادي بمبدأ «النفقة الكاملة» ويستلزم هذا فصل الدعم عن سياسة تحديد الأسعار، ويقتضي الأخذ بهذا الاقتراح تغيير الأسعار إذا ما تغيرت نفقات الإنتاج، وذلك حتى لا تتحمل الميزانية العامة فروق الأسعار، ويدخل في هذا  نفقات العمالة والضرائب وعبء استهلاك الآلات، وقد يكون من المفيد هنا الإشارة دون تعليق ان أحد القطاعات المنتجة، يسلم إنتاجه وبسعر دون التكلفة أحياناً إلى جهة عامة أخرى التي تسعّر المادة بخمسة أضعاف تكلفتها، ويعتبر فارق السعر دخلاً للخزانة العامة.

خامساً ـ رقابة الجودة:

ظل القطاع العام يعمل فترة طويلة منفرداً دون منافس تقريباً. ومن المعروف ان احتكار السوق والإفراط في الحماية الجمركية غالباً ما يترتب عليهما تدهور درجة جودة المنتجات، سواء تعلق الأمر بالقطاع العام أو الخاص، أما الآن فقد اصبح القطاع العام يواجه منافسة حادة من القطاع الخاص والمستوردات، الأمر الذي يفرض على القائمين عليه ضرورة الارتقاء بمستوى جودة المنتجات، ومراعاة أذواق المستهلكين ، ومتابعة الأسواق الداخلية والخارجية للتعرف على افضل أساليب التسويق والإعلان. كذلك من الضروري ان تحترم الوحدات المنتجة التزاماتها قبل العملاء فيما يتعلق بمواصفات المنتجات ومواعيد تسليمها، ومدى توافر خدمات ما بعد البيع، خاصة بالنسبة للسلع المعمرة. وتظهر أهمية الاعتبارات السابقة بشكل خاص حين يتعلق الأمر بالأسواق الخارجية، حيث تشتد المنافسة ويتمتع المستهلك، في الكثير من الأسواق، بقدر ملحوظ من رفاهية العيش، غالباً ما يدفعه إلى الأحجام عن شراء المنتجات غير الجيدة. ومن الضروري دفع المشروعات، سواء العامة أو الخاصة على زيادة صادراتها إلى الخارج، من خلال تقرير بعض المزايا والحوافز.

ومن الضروري لتحقيق الأهداف السابقة، التأكد الجاد، من خلال أجهزة رقابة الجودة، من تحقيق المواصفات القياسية العالمية في المنتجات سواء تعلق الأمر بإنتاج القطاع العام أو الخاص.

سادساً ـ التمويل:

ان نجاح الوحدة المنتجة في استخدام وتشغيل الموارد المتاحة، طبقاً لمقتضيات الكفاءة الاقتصادية، يستلزم إعادة النظر في نظام توزيع ما تحققه من أرباح، بالطريقة التي تكفل توافر التمويل للوحدات المنتجة، من للقيام بأعمال الاستبدال والصيانة والتجديد، أو زيادة طاقتها الإنتاجية من خلال الأقدام على استثمارات جديدة.

وإذ  تبين ان هناك حاجة لمصادر خارجية إضافية للقيام بهذه العمليات، يمكن ان يتم ذلك عن طريق المصرف التجاري بعد دراسة جادة للمشروعات التي ترغب الوحدة الإنتاجية القيام بها، مع مراعاة قدرتها على السداد في المستقبل.

ويلزم لعلاج نقص السيولة التي تواجه بعض شركات القطاع العام، إعطاء مزيد من الاهتمام لتحقيق التوازن بين سياسة تخطيط المخزون والإنتاج، والعمل الجاد على تصريف المخزون الراكد، ولو اقتضى الأمر إلى تحمل بعض التضحيات المالية، مع المحاسبة عن أسباب توافر المخزون وعدم التسويق، بصرف النظر عن سوق مرحلية أخذت الآن بعض المخازين، هذا من غير اغفال التصرف بالمخزون من قبل البعض على شكل هبات وهدايا لجهات كثيرة لا لشيء الا لكسب الولاء وتدعيم النفوذ في الموقع.

هذا إلى جانب وجوب إعادة النظر بتحديد رؤوس أموال الشركات والوفاء بها، خاصة وان غالبيتها لم تسدد منذ زمن طويل.

أما بالنسبة للشركات التي يثبت ان لا أمل في إصلاحها، فيتحتم النظر في أمر تصفيتها، طبقاً لما هو متبع بالنسبة لشركات القطاع الخاص، والتي يتعين ان تعلن إفلاسها، إذا ما تعرضت لخسائر مستمرة. هذا، في حين توجد بعض الوحدات الإنتاجية العامة، التي ما زالت تعمل رغم ان خسائرها قد بلغت أضعاف أضعاف رأس المال المستثمر بها.

سابعاً ـ الطاقات العاطلة وتراكم المخزون:

يجد الكثير من الدول النامية صعوبة في توفير القدر الكافي من الموارد الاقتصادية لمواجهة متطلبات التنمية. وتظهر هذه الصعوبة بشكل خاص بالنسبة لما يعرف برأس المال المنتج، مثل الآلات والمعدات. ومع ذلك، فإن الكثير من هذه الدول، تعاني من وجود طاقات عاطلة، تمثل في حقيقة الأمر ما يشبه الظاهرة المزمنة، وتصل في بضع الأحيان إلى اكثر من 25% من الطاقة الإنتاجية المتاحة. وترجع هذه الظاهرة إلى عوامل كثيرة من أهمها:

1 ـ قصور طلب السوق عن القدر الذي يمكّن من التشغيل الكامل للطاقة الإنتاجية المتاحة، طبقاً للمعدلات المتعارف عليها في الصناعة، ويرجع قصور الطلب أحياناً إلى انخفاض مستوى جودة المنتجات مع رغبات المستهلكين، أو بسبب منافسة المشروعات الأخرى والواردات، أو نتيجة ركود السوق.

2 ـ خطأ أجهزة التخطيط أو إدارة الوحدة المنتجة في تقدير الاحتياجات الحقيقة للأسواق، وكثيراً ما تنتج اكثر من وحدة إنتاجية، ذات الإنتاج.

3 ـ عدم توافر بعض مستلزمات الإنتاج، خاصة التي يلزم استيرادها من الخارج، أو عدم توافر هذه المستلزمات طبقاً للمواصفات الملائمة بسبب سوء أسلوب الشراء، وتزايد السماسرة والعملاء على خط الشراء، أو بسبب وجود عيوب في بعض الخامات. ومن أهم أسباب عدم توافر هذه المستلزمات، في الوقت المناسب قصور التمويل وخاصة النقد الأجنبي، نظراً لاتجاه أغلب الشركات للسوق المحلي لتصريف منتجاتها، ولصعوبة التصدير.

4 ـ ضعف الخبرة في التعامل مع بعض الآلات وخاصة الآلات الحديثة ذات السمات التكنولوجية المعقدة، وإهمال عمليات الصيانة والاستبدال، مما يؤدي إلى تعطل الآلات أو توقفها تماماً عن الإنتاج. وتعتبر ظاهرة إهمال صيانة رأس المال القومي من اخطر المشكلات التي تواجه دول العالم الثالث ومن بينها سوريا.

     ويستلزم مواجهة هذه المشكلة العمل على توفير الشروط التي تمكن من استغلال الطاقات العاطلة، وعدم القيام باستثمارات جديدة في الأنشطة التي توجد بها طاقات عاطلة، قبل تشغيل هذه الطاقات، كما يمكن للمشروعات التي بها طاقات عاطلة ان يُبحث في أمر تأجيرها للغير، أو إيجاد نشاطات لاستغلال طاقاتها.

ثامناً ـ مشكلة تراكم  المخزون:

تمثل مشكلة المخزون الراكد، في بعض الوحدات المنتجة، عبئاً إضافياً على هذه الوحدات. وترجع هذه الظاهرة، التي تمثل أحد مظاهر الفاقد في الاقتصاد القومي، إلى أسباب عديدة من بينها ما يأتي:

1 ـ انخفاض مستوى جودة المنتجات، ولعل هذا هو أهم أسباب تراكز المخزون.

2 ـ منافسة المنتجات البديلة، المحلية أو الأجنبية.

3 ـ عدم قدرة إدارة الوحدة المنتجة على التمشي مع التغيرات في أذواق المستهلكين.

4 ـ تعمد إدارة المشروع في بعض الأحيان إنتاج سلع راكدة حتى يمكنها ادعاء أنها حققت أهداف الإنتاج، كمبرر لتوزيع أرباح وحوافز.

ومن الضروري ملاحظة ان إغلاق بعض أسواق الدول الاشتراكية السابقة بوجه بعض المنتجات، واستمرار الإنتاج مع انعدام الأسواق، وعدم تنويع وتحديث الإنتاج ساهم في التراكم، وكذلك من الضروري ملاحظة ان الإنتاج في القطاع الخاص، والسماح بالاستيراد الجزئي وما تبعه من زيادة حدة المنافسة، كان من أسباب تراكم المخزون في القطاع العام لذلك من الضروري توفير بعض الحماية للصناعات الوطنية، مع ملاحظة ان الإسراف في الحماية غالباً ما يكون له آثار سلبية على كفاءة الصناعة المحلية وقدرتها على تطوير نفسها لمواكبة متطلبات العصر. كذلك يلاحظ ان الإسراف في الحماية، يؤدي إلى سوء الإنتاج ورفع الأسعار إذا لم تتوافر الرقابة الجدية والصارمة.

وبالإضافة إلى تراكم المخزون السلعي، نجد ان بعض الوحدات المنتجة قد تضطر إلى زيادة المخزون لديها من مستلزمات الإنتاج، عن المعدلات المتعارف عليها، خوفاً من الا تستطيع الحصول على هذه المستلزمات في الوقت المناسب، لسبب أو آخر، وهذا يشكل دون شك أعباء مالية إضافية على هذه الوحدات.

وحتى يمكن تفادي المشكلات السابقة، نقترح ما يأتي:

1 ـ الارتقاء بمستوى جودة المنتجات.

2 ـ التقدير الجيد لاحتياجات السوق وتطوير نظم التسويق والإعلان.

3 ـ تمكين الوحدات المنتجة من الحصول على حاجتها من مستلزمات الإنتاج في الوقت المناسب.

4 ـ المساءلة الجادة للإدارة التي تعمد إلى إنتاج سلع راكدة.

5 ـ ربط حافز المنتج بنوعية وكمية الإنتاج وربط حافز الإدارة بما تحققه من ربح بعد التسويق، على ما سبق وتمت الإشارة إليه.

في الختام لا بد من الإشارة إلى أن الهدف الأساسي من قيام القطاع العام والتوسع فيه هو ان يكون القطاع الرائد لادارة التنمية الاقتصادية، وان يساعد في تجميع المدخرات المحلية.

وإذا كان القطاع العام قد تعثر أحياناً، أو قد تسببت السياسات المالية التي حرمته من استخدام موارده الذاتية في عمليات الاستبدال والتجديد أو التطوير، أو قد تسببت إداراته غير المنتقاة بشكل علمي وموضوعي في خسارته، فالواضح ان الواجب يحتم على ضرورة إنقاذ هذا القطاع وتحريره وتطويره، لان الهدف من قيام القطاع العام هو ان يكون القطاع الرائد لادارة التنمية الاقتصادية، وان يساعد في جمع المدخرات، شريطة ان يعمل بأسلوب اقتصادي، وعلى نحو يأخذ المعيار الاقتصادي في تقييم الأداء، وهذا يحتم ان تحدد الدولة بوضوح سياستها الاقتصادية، وان توفر لهذه السياسة قدراً من الاستقرار وقدراً من المرونة، وان يكون القائمون على تنفيذ هذه السياسة على اقتناع تام بجدواها، وكذلك تحقيق الاتساق والتوافق بين السياسات الاقتصادية والمالية النقدية للدولة، بحيث تتخلص تماماً مما قد يقوم بينها من تعارض أو تناقض.


السيدات والسادة

اشعر معكم اني أطلت، وربما كررت الأفكار ولو بصور وصياغات مختلفة، فلا بد لي من الاعتذار آملاً ان تكون سعة صدركم قابلة لعذري، ولكن ومع ذلك فهناك أمر هام لا بد من التنويه به لاني اعتقد انه يتصل بالضرورة بأي تطوير للقطاع العام أو للعمل الاقتصادي وهذا الموضوع هو قانون العقوبات الاقتصادية والمحاكم الاقتصادية التي أمست كلها عبئاً على العاملين في الجهات العامة كافة أو للمتعاملين مع هذه الجهات، هذا فضلاً عن ان ما هو سائد لدى المحاكم الاقتصادية من تضييق حق الدفاع المشروع بشكله القانوني، وحرمان الأطراف من الإطلاع على وثائق قضاياهم، وقطعية قرارات قضاة التحقيق، وهم من أدنى مراتب القضاة، هذا فضلاً عن مظاهر الحماية والوقاية التي تحيط  غرف وأماكن هذه المحاكم مما يخرج عن آداب التقاضي في العالم، شكل ويشكل خروجاً عن قواعد العدالة وتضييقا لحق التقاضي، وبعداً عما يجب ان يوصف به القضاة من انهم سدنة الحق ومصابيح العدل وهم الأقرب إلى الناس والأكثر تواضعاً والأفضل خلقاً.

يضاف إلى ذلك ان بعضاً من أحكام هذه المحاكم يصدر مبرماً مما شكل ويشكل رعباً لدى سائر العاملين في الجهات العامة، خاصة إذا أضفنا أسلوب التحقيق لدى التفتيش هذا الأسلوب الذي أودع الكثيرين في السجن من غير دليل وأهمل الكثير من المرتكبين.

في ضوء هذا الواقع ارتفعت أصوات وطرحت آراء حول تعديل قانون العقوبات الاقتصادي، وإلغاء المحاكم الاقتصادية ومدى ملاءمة قانون العقوبات الاقتصادي النافذ في ضوء مرحلة التطور والنمو الذي حدث ولا زال في القطر.

تبعا لذلك وانطلاقاً من ماهية العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة والناجمة عن مرحلة النمو التي ينظر الجميع إلى حتمية استمرارها وتطورها بما يواكب التطور في العالم، خاصة وان البلدان التي كانت تفرد نصوصاً للعقوبات الاقتصادية، والتي كانت لديها محاكم اقتصادية استثنائية عدلت عن هذا الأسلوب، وعادت إلى الأصل، إذ ضمنت ما هو ضروري من عقوبات اقتصادية في قانون العقوبات العام، وجعلت الاختصاص إلى القضاء الجزائي العادي وفق أصول المحاكمات الجزائية.

في هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن الجرائم الاقتصادية ظهرت في العصر الحديث كنتيجة حتمية للقيود الاقتصادية التي واكبت الحروب والأزمات، لكن هذه الجرائم أخذت في النمو والتطور والاتساع بصورة مستمرة في دول كثيرة عقب الحرب العالمية الثانية، مما حدا إلى جعل العقوبات الاقتصادية مستقلة عن قانون العقوبات العادي مع إرساء قواعد وأحكام خاصة بها.

ولئن كانت الدول الرأسمالية قد اتجهت أحياناً لوضع نصوص تجرم بعض الأفعال وتعاقب من يخالف أحكامها، وكان الهدف من ذلك حماية النظام الاقتصادي كي لا تعم الفوضى ويشيع الفساد، إلا أن ذلك كان وقتياً ومرحلياً إذ استند التجريم في تلك التشريعات على حماية مصلحة النظام الاقتصادي والظروف الاقتصادية، ولم يكن ردّ فعل اجتماعي هذا الرد الذي هو الأساس في الجرائم العادية، وبدا من خلال المراحل التاريخية أن اكثر التشريعات الاقتصادية في هذه الدول كانت لحل أزمة اقتصادية طارئة، ثم ما لبث أن ألغيت بزوال تلك الأزمة، ومع ذلك فإن كل تلك الجرائم كانت تحال في حينها إلى القضاء العادي.

أما في الأنظمة الاشتراكية، فقد فرضت السمة التخطيطية للاقتصاد تدخلاً واسعاً للدولة في شؤونه، فالدولة هي التي تضع السياسة الاقتصادية والخطط التفصيلية المنفذة لهذه السياسة وهي التي تكلف بتنفيذها، وتبعاً لهذا اعتبرت كل فعل يستهدف مسّ هذه السياسة وعرقلة تنفيذها جرماً يوجب العقاب، تحت مظلة حماية مصالح الدولة الاقتصادية ومصالح المنظمات الاجتماعية.

وما تجدر الإشارة إليه هو أن معظم تشريعات الدول الاشتراكية دمجت النصوص الجزائية الاقتصادية بقانون العقوبات العام، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي، والقلة من الدول مثل يوغوسلافيا أفردت قانوناً خاصاً للعقوبات الاقتصادية، لكن الملاحظ أن اختصاص النظر في القضايا الاقتصادية في هذه الأنظمة بقي للمحاكم العادية.

أما في البلدان العربية فقد بقي نطاق الجرائم الاقتصادية ضيقاً ومحدداً في تشريعاتها، فيما عدا الجزائر وسورية والعراق، وتجدر الإشارة إلى أن مصر أفردت في عام 1965 باباً في قانون العقوبات العام للجرائم الماسة بالاقتصاد القومي، وصدر منذ عام 1974 بعض القوانين عدلت نصوصاً سابقة، ففي عام 1974 صدر قانون حماية الأموال العامة، وفي عام 1975 صدر قانون بشأن الاستيراد والتصدير وفي عام 1976 صدر قانون بشأن التعامل بالنقد الأجنبي، وقد خفض القانون المذكور القيود السابقة على التعامل بالنقد، ومع صدور هذه القوانين فإن الاختصاص في النظر بالقضايا الاقتصادية بقي معقوداً للمحاكم العادية، وأحكام هذه المحاكم تخضع لطرق الطعن العادية، وما تجدر ملاحظته أن تعديلات لاحقة صدرت، خففت من القيود الاقتصادية تمشياً مع متطلبات الانفتاح الاقتصادي والتطور الاقتصادي الجاري.

أما في سوريا فقد ورد في قانون العقوبات الصادر عام 1949 بعض الجرائم ذات الطابع الاقتصادي ، ولا سيما بالنسبة لمدلول هذه الجرائم في البلاد الاشتراكية، وصدر عقب ذلك بعض التشريعات الاقتصادية نتيجة الظروف التي مرت بالقطر كالمرسوم التشريعي رقم 14 لعام 1951 حول حيازة المواد والمنتجات والمتاجرة فيها والقانون 130 لعام 1953 بشأن قمع الغش.

ومنذ الوحدة مع مصر عام 1958 ازداد تدخل الدولة في شؤون الاقتصاد، وبعد التأميم صدر القانون رقم 241 لعام 1959 بشأن منع الاحتكار والقانون 158 لعام 1960 بشأن قمع الغش والقانون رقم 123 لعام 1960 حول التموين والتسعير والذي عدّل اكثر من مرة في عامي 1969 و1971.

وفي عام 1961 صدر القانون رقم 11 بشأن عمليات النقد الأجنبي، وعقب ثورة آذار عام 1963 والتوجه الاشتراكي، وخاصة بعد التأميم صدرت تشريعات تتعلق بإخضاع تصدير السلع إلى مواصفات محددة وتنظيم مؤسسات التجارة الخارجية، ومن ثم صدرت قرارات تنظيم عمليات النقد والرقابة عليها، وتنظيم أعمال الصرافة، ولا نغفل الاشارة هنا إلى القانون رقم 24 لعام 1987 والذي عدّل مؤخراً.

وبتاريخ 16/5/1966 صدر قانون العقوبات الاقتصادية بالمرسوم التشريعي رقم 37 الذي عدّل في أعوام 1968 و1974 و 1977 وأخيراً عام 2000 بموجب المرسوم التشريعي رقم /4/.

وقد تضمن قانون العقوبات الاقتصادية نصوصاً تطال جميع الأعمال التي من شأنها إلحاق الضرر بالمال العام وبعمليات إنتاج وتوزيع وتداول واستهلاك السلع والخدمات الاقتصادية.

لقد كان هناك إجماع أن هذا القانون وبتاريخ صدوره توسّع في نطاق الجرائم الاقتصادية، إذ لم تقتصر الجريمة الاقتصادية بموجب أحكامه على حماية السياسة الاقتصادية وحسب، بل تناولت الاقتصاد القومي بكل نواحيه والأموال العامة بعد التوسع في مفهومها.

إن تجريم الأفعال الاقتصادية، وكما تم إيجازه أعلاه يختلف ويتنوع من دولة لأخرى، إلا أن الملاحظ أن القانون السوري اخذ بأقصى مدى تماشياً مع ما كان نافذاً ببعض الدول الشيوعية، ورتب توسعاً في مفهوم الفاعل وأنماط المساهمة الجرمية، وشدد العقوبات ومنع منح الأسباب المخففة في حالات كثيرة، لا بل فقد وصل وفي تشريع خاص إلى إمكانية الحكم بالإعدام إذا هدف الفعل إلى قلب أو تخريب النظام الاشتراكي.

ولئن كان اختصاص النظر في الجرائم الاقتصادية معقوداً للمحاكم الجزائية العادية، غير انه وفي عام 1977 صدر المرسوم التشريعي رقم 46 المتضمن إحداث محاكم الأمن الاقتصادي وقد عدّل هذا المرسوم التشريعي بالقانون 11 لعام 1981 والمرسوم التشريعي رقم 23 لعام 1986 والمرسوم التشريعي رقم 29 لعام 1986 وأخيراً بالمرسوم التشريعي رقم 5 لعام 2000.

لقد قضى هذا القانون بتشكيل محاكم الأمن الاقتصادي من قاض ومستشارين من غير القضاة ومن حملة الشهادات العليا في الاقتصاد، وجعل التعديل الصادر عام 1981 قرارات قضاة التحقيق مبرمة وعلى نحو يحال المتهم، سواء أكان الجرم جنحة أم جناية، إلى محكمة الأمن الاقتصادي التي تجري محاكمة المحالين إليها موقوفين، وأحكامها في العديد من الجرائم مبرمة.

وبصرف النظر عن أهمية مثل هذه النصوص في الظروف التي صدرت فيها، غير  أنها كانت متطرفة، مما لم يحقق الغاية من صدورها، هذا مع الأخذ بالاعتبار أن تطور الأحوال الاقتصادية والاجتماعية وتعاظم البنى التحتية وتوسع المشاريع الاقتصادية في البلد والتوجه نحو توسيع مجالات الاستثمار وتشجيع المستثمرين، وتطوير إدارة القطاع العام، يصطدم بهذه النصوص النافذة التي لم تعد تتلاءم مع المرحلة التي نمر بها، والخطط التي ننشد تنفيذها مع التطلع إلى الانفتاح، هذا مع مراعاة التحولات الدولية والإقليمية سوءا على المستوى الاقتصادي أو ا لسياسي العام.

وقد يكون ما جاء على لسان الحكومة في بيانها أمام مجلس الشعب من أن أنها لاحظت وتلاحظ أن العالم يمر بمجموعة من التحولات الدولية والإقليمية البنيوية الاقتصادية والسياسة العامة، مما يفرض على شعوب الدول النامية تركيز الجهود والطاقات لإعادة النظر بكثير من سياسات عملها التنموي مع مراجعة أساليب العمل وادواته لتحقيق المصالح الوطنية الحقيقية، مع السعي الدؤوب لمراجعة الوضع الاقتصادي والاجتماعي و الثقافي والمالي للدولة، بغية بلورة الصورة الدقيقة له، ووضع الأسس المؤدية للتطور ومنع الفوضى ووأد الفساد والتغلب على أي وهن أو تقصير يمكن أن يعتري خطى الأجهزة التنفيذية، أحياناً، يؤكد ضرورة إعادة النظر في هذه القوانين.

في إطار هذا التوجه، ومن خلال حث الخطى على طريق التقدم والتطور الاقتصادي، لا بد من العودة إلى أحكام قانون العقوبات الاقتصادية والقوانين التابعة له، لإعادة دراستها، وتعديلها بما يتفق ومرحلة التطور التي يمر بها القطر، وبما ينسجم مع تطلعات التنمية الاقتصادية وتشجيع الاستثمار وتفعيل دور القطاع العام، والوصول إلى مرحلة المحاسبة على النتائج، ومثل هذه الدراسة لا بد وان تتجاوز الكثير من نصوص قانون العقوبات الاقتصادي وتوابعه، على أن يكون البديل من النصوص التي تنسجم مع واقع تطلعاتنا، جزءاً لا يتجزأ من قانون العقوبات، مع الرجوع إلى الأصل بجعل اختصاص النظر في سائر القضايا الجزائية من اختصاص المحاكم العادية، خاصة إذا لاحظنا أن العالم بأسره، يعدل عن أسلوب المحاكم الاستثنائية والقضاء الخاص، وهو استثنائي بطبيعته.

وفي هذا الإطار لا بد من لفت العناية إلى أن تحقيق العدالة والوصول إلى تطبيق سليم لاحكام القانون، من غير إغفال لمقولة أن القانون هو تقنين مصلحة الطبقة الحاكمة، لا بد من دراسة ما يؤطر وينظم صرح العدالة في محاولة لإعادة النظر في النصوص الناظمة للمحاكم الاستثنائية، وإلغاء هذه المحاكم، وإعادة تأهيل القضاة، بعد أن اصبح القضاة المتمرسون في العمل القضائي قلة قليلة، هذا إلى جانب تحديد الإجراءات التي من شانها تنظيم وحماية السلطة القضائية، ومنع الخلل الذي تسرب إلى صفوفها، وذلك يغني عن وجود محاكم خاصة واستثنائية، على أن تكون الأحكام كافة خاضعة لرقابة محكمة النقض لضمان حسن تنفيذ القانون وإصلاح أي خطأ أو خلل قد يقع من المحاكم الأدنى.

ويجدر هنا أن ننوه بان المؤتمر السادس لقانون العقوبات المنعقد في روما بحث موضوع الجريمة الاقتصادية، كما بحثت بعده الحلقة العربية الأولى للدفاع الاجتماعي المنعقدة في القاهرة موضوع وسائل الدفاع الاجتماعي ضد الجرائم الاقتصادية، وقد أوصى كل من المؤتمرين المذكورين بان تتولى المحاكم الجزائية العادية النظر في الجرائم الاقتصادية بمعرفة قضاة متمرسين ومتخصصين، وعلى أن تكون الجرائم الاقتصادية الضرورية والمتفقة مع مرحلة التطور المنشودة جزءاً من قانون العقوبات.

ولا شك أن هذه التوجهات تعبّر عن الاتجاه السائد في الفقه والتشريع المقارن بهذا المضمار، ويكاد يجمع الفقهاء ومن سائر الاتجاهات، على هذا المبدأ، وينصحون بعدم اللجوء إلى محاكم استثنائية بهذه الجرائم.

تلك هي وجهة نظر قابلة للنقاش من غير اعتبارها مساً بهذه المحاكم لأننا كنا ولا زلنا نعتبر ان ساحة القضاء هي ساحة تكريس مفهوم الحق وتطبيق القانون وتحقيق العدالة، وان القضاة في الأصل هم سدنة الحق ومصابيح العدل.

 

انطون جبران



* محام واداري،  وزير الشؤون الاجتماعية والعمل الأسبق ووزير الصناعة الأسبق.